جمال الغندور وذاكرة العار.. عندما حاكم الإسبان حكماً مصرياً لأكثر من 20 سنة

في مساء الثاني والعشرين من يونيو 2022، جلس الإعلامي الإسباني المعروف جوسيب بيدريرول في برنامجه الشهير “التشيرينغيتو” ليقود حلقة استثنائية ليست عن كرة القدم، بل عن جرح لم يلتئم. كان المشهد أقرب إلى طقس عزاء قومي، حيث اجتمع ضيوف البرنامج وملايين المشاهدين لإحياء ذكرى ما وصفوه بـ”سرقة القرن”.
انها الذكرى العشرون لليوم الذي ودعت فيه إسبانيا كأس العالم 2002 على يد كوريا الجنوبية، بقيادة الحكم المصري جمال الغندور. لا، لم يكن يومًا عاديًا في تاريخ كرة القدم الإسبانية، بل كان حدثًا في ذاكرة وطن، حوّل حكمًا عربيًا إلى “شخصية شريرة” في المخيال الجمعي الإسباني.
جمال الغندور، الرجل الذي خاض مباريات عالمية كبرى، أدار نهائي أمم إفريقيا، وحكم في اليورو، ووقف في أولمبياد أتلانتا، بات فجأة – بالنسبة للإسبان – الطاغية الذي حرمهم من أعظم إنجاز في تاريخهم الكروي حتى ذلك الحين.
لكن القصة، كما كل القصص التي تُروى من طرف واحد، كانت ناقصة.
فصول من سيرة رجل… لا من مؤامرة
وُلد جمال الغندور في القاهرة عام 1957، ودخل عالم التحكيم بمحض الصدفة، ليصبح مع السنوات واحدًا من أبرز حكام القارة الإفريقية والعالم. بصافرته أدار مباريات في كل البطولات القارية والدولية: من كأس الأمم الإفريقية، إلى كأس آسيا، إلى كأس العالم، فالأولمبياد، وكأس القارات، وحتى اليورو.
وفي يورو 2000، كان أول حكم غير أوروبي يدير مباريات في البطولة، إنجاز نادر جعل منه رمزًا للتحكيم العربي والإفريقي. ظل الغندور لسنوات يفاخر بذلك الإنجاز، ويتحدث عنه باعتزاز، مؤكدًا أنه مثّل ذروة نضجه التحكيمي وتقدير الاتحاد الدولي له. حتى جاء صيف 2002.
الواقعة: كوريا الجنوبية ضد إسبانيا وكارثة راجوناث
في يوم 22 يونيو 2002، أثناء إدارة الغندور لمباراة ربع نهائي المونديال بين كوريا الجنوبية وإسبانيا، تحوّل من حكم مرموق إلى خصم جماهيري لشعب كامل. حادثة واحدة، وإن لم تكن خطأه، أطاحت بمسيرته وألصقت اسمه بوصمة لم تُمحَ حتى اليوم.

المباراة كانت محاطة بتوتر غير مسبوق. بعد الفضيحة التحكيمية في مباراة الدور الـ16 بين كوريا الجنوبية وإيطاليا، تقرر إسناد اللقاء الحساس للغندور. لكنه لم يكن وحده. رافقه مساعدان من أوغندا وترينيداد وتوباغو، لم يسبق لهما العمل في مباريات بهذا الحجم.
وخلال المباراة، أُلغي هدفان لإسبانيا، الأول بسبب خطأ واضح من روبين باراخا، والثاني بسبب قرار من المساعد بأن الكرة تجاوزت خط الملعب قبل العرضية – وهي الحالة التي أشعلت الغضب الإسباني، رغم أن الغندور لم يكن مسؤولًا عنها.
أما في ركلات الترجيح، فقد تصدى الحارس الكوري لركلة خواكين وهو متقدم عن خط المرمى، كان يفترض إعادة الركلة… لكن مرة أخرى، لم تكن تلك مسؤولية الغندور المباشرة، بل المساعد بجانب المرمى.
تفاصيل اللقطة الأشهر
في الدقيقة 92 من الشوط الإضافي الأول، أرسل خواكين سانشيز عرضية من الجهة اليمنى قابلها فيرناندو مورينتس برأسه في الشباك، هدفًا ذهبيًا كان سيقود إسبانيا إلى نصف النهائي.
لكن فرحة “لاروخا” لم تكتمل، مايكل راجوناث، الحكم المساعد من ترينيداد وتوباغو، رفع رايته، مُعلنًا أن الكرة تجاوزت خط الملعب قبل عرضية سانشيز. الغندور – بوصفه الحكم الرئيسي – لم يكن أمامه سوى الاستجابة لإشارة مساعده، كما يقتضي القانون، ليتم إلغاء الهدف وسط دهشة لاعبي المنتخب الإسباني.

ورغم أن إعادة اللقطة أثبتت لاحقًا أن الكرة لم تتجاوز خط الملعب، فإن الغندور حُمل كامل المسؤولية، في حين أن مساعده – صاحب القرار الحاسم – اختفى عن المشهد، ولم يوجه له الإعلام الإسباني اللوم ذاته.

لم يكن الإسبان مستعدين لقبول خسارة لم تكن مبررة في نظرهم. كانت كوريا فريقًا “أضعف” على الورق، وإسبانيا أمام فرصة ذهبية للتأهل إلى نصف النهائي للمرة الأولى منذ 1950.
فتحت الصحافة الإسبانية النيران على الغندور؛ لقبوه بـ”سارق الحلم” ووُجهت له اتهامات تتراوح من التحيز إلى التواطؤ إلى تلقي الرشوة، في وقت كانت فيه الجماهير تبحث عن كبش فداء لهزيمة موجعة.

وظل الإعلام الإسباني يهاجم الغندور على مدار عقدين، واستُخدم اسمه كرمز للتحكيم الظالم. حتى عندما خسروا نهائي دوري الأمم الأوروبية 2021 أمام فرنسا بهدف مثير للجدل لكيليان مبابي، عنونت “ماركا”: “الغندور كان حكم الفيديو!”.
كرة لم تخرج.. وتكنولوجيا غيرت اللعبة
الواقعة لم تمر مرور الكرام في أروقة الاتحاد الدولي لكرة القدم. فقد دفعت تلك الحادثة ومثيلاتها الفيفا إلى التفكير بعمق في كيفية ضمان الدقة عند احتساب خروج الكرة من الملعب أو دخولها المرمى، خاصة أن الحكم البشري ليس قادرًا دومًا على تحديد هذه الحالات بدقة.

ولسنوات، ظل البحث جاريًا عن حل. حتى ظهرت تقنية حكم الفيديو المساعد (VAR)، ومعها تقنيات التتبع شبه الآلي، والأنظمة ثلاثية الأبعاد لتحديد موضع الكرة بدقة.
ولعل المفارقة الساخرة أن أكثر الحالات شهرةً التي اُستخدمت فيها التكنولوجيا الجديدة، كانت على حساب إسبانيا نفسها، وذلك حينما واجهت اليابان في دور المجموعات في كأس العالم 2022 بقطر، حيث أحرز اليابانيون هدفًا من كرة بدت للوهلة الأولى وكأنها خرجت تمامًا من الملعب، لكن اتضح بعد العودة إلى الـVAR أن جزءًا ضئيلًا جدًا من محيط الكرة ظل ملامسًا للخط، فتم احتساب الهدف الذي أهل أحفاد الساموراي وأقصى اللاروخا.

بعد هذه الحالة، انتفض الجرح القديم على الإسبان، واشتعل الإعلام الإسباني مجددًا. وتم استدعاء الغندور من أرشيف الذاكرة الجماعية، وكأنهم يقولون: لو كانت التقنية موجودة في 2002، لما خرجنا من البطولة.
بين ظلم تاريخي وواقع مُحرّف
تظهر الوقائع التحكيمية في مباراة كوريا الجنوبية وإسبانيا – بعد مراجعتها بعين محايدة – أن الغندور لم يكن طرفًا في القرارات الجدلية الكبرى.

كما دعمت الإعادات التلفزيونية الحكم المصري في معظم الحالات المثيرة، بل كشفت عن مخالفات ارتكبها بعض لاعبي إسبانيا لم يعاقبوا عليها، مثل تدخل روميرو الذي استحق الطرد. الغندور لم يطرد اللاعب، في قرار يصب نظريًا في صالح الإسبان، لا ضدهم.
ومع كل هذا، بقي الغندور هو الاسم الوحيد المرتبط بالمباراة في ذهن الجمهور الإسباني، لأنه ببساطة، كان العربي الوحيد في موقع المسؤولية في لحظة سقوطهم المؤلم.
في نهاية الأمر، لم يُدان الغندور من الفيفا، ولم يُستبعد بعد البطولة، بل نال تقييمًا جيدًا. وهو نفسه ظهر لاحقًا في وثائقي ضخم من إنتاج إسباني، تحدى الجميع أن يُبيِّنوا خطؤه… ففشلوا.

لقد ظُلم المنتخب الإسباني في 2002، نعم. فقد كان يملك جيلًا رائعًا يقوده هييرو، راؤول، تشافي، مورينتس، وخواكين، تطلع إلى تجاوز عقدة ربع النهائي. لكن الحقيقة أيضًا أنهم لم يلعبوا مباراة عظيمة، وأهدروا فرصهم، ووقعوا فريسة لضغط الجماهير الكورية العارمة.
أما الغندور، فقد كان ضحية خطأ بشري من مساعده، وضحية إرث استعمار رياضي لا يرى في غير الأوروبي “جديرًا” بالتحكيم في لحظات الحسم.
قد تكون مشاعر الإسبان مفهومة، وقد يكون غضبهم مبررًا في لحظة سقوط صادمة.
لكن، حين نضع الأمور في سياقها الحقيقي، نجد أن الغندور لم يكن الجلاد، بل أحد من وجدوا أنفسهم وسط العاصفة، دفع فيها الثمن الأكبر عن خطأ لم يرتكبه.
وفي وقت صار فيه من السهل مهاجمة شخص بعينه، بات من الصعب أن نتذكر التفاصيل… أو نواجه أنفسنا بالحقيقة.
هل يستحق الغندور هذه الكراهية؟
سؤال بديهي بعد أكثر من عشرين عامًا من الهجوم المتواصل. من المؤكد أنه لم يكن ملاكًا، لكنه كذلك لا يستحق كل هذه الكراهية، لكن من يفهم ذلك في مدريد؟ فهناك، لا تزال القصة تُروى كما كتبتها “ماركا” و”آس” و”الشيرنغيتو”: الحكم المصري أطاح بنا، وما زال ينكر جريمته.